انتقل إلى المحتوى

توضيحات على عرضٍ ظهر لكتاب قص الحق

ظهر فيديو لعرض كتاب قص الحق بطريقة يُفهم منه أنه موجه لانتقاد الفقهاء والأنظمة القائمة أكثر من كونه كتاباً لبناء أمة. ومن جهة أخرى، ولأن الكتاب يرفض الديمقراطية تماماً ويصر على تطبيق الشريعة، سيقع المتابع في حيرة عن كيفية التطبيق، والتي لم تظهر في العرض بأمثلة ملموسة مقنعة، وبالتالي سيتأكد المتابع من استحالة تطبيق الشريعة لاختلاف جميع الظروف بين عهد النبوة وواقعنا المعاصر.

في وصف صفحتي في تويتر والفيس بوك وفي رأس الصفحة كتبت قبل سنوات عبارة: (كون أننا لا نرى الحل الأمثل لواقعنا المعقد إن طبقنا الشريعة، فهذا لا يعني أنه غير موجود). والسبب في العبارة هو ملاحظتي من المناقشات غياب مسألة جوهرية عن الناس هي: كيف يمكن للشريعة أن تعمل في أيامنا هذه؟ فلأننا نشأنا في نظم معاصرة بعيدة عن الشريعة، كانت غربة الشريعة عن واقعنا حتى بين كبار الباحثين. لهذا كتبت هذه العبارة.

الفيديو الذي نشر، قام به باحث معروف في مواقع التواصل الاجتماعي. فله الشكر لهذا اللفت للكتاب لا سيما أن متابعيه كثر أثابه الله. وهذا مكسب للكتاب. لكن بمشاهدة العرض تأكدت أن العبارة التي كتبتها في رأس الصفحة ستجعل جزءاً جيداً من مشاهدي العرض يرفضون قص الحق لأنهم لم يروا الحل.

قبل سنوات ظهر فيديو لشرح كتاب عمارة الأرض مع نقد فلسفي قام به شيخ فاضل من خريجي الأزهر، فقمت بالرد بفيديو آخر ما أدى للاستفادة من الآراء المختلفة للمهتمين بعمارة الأرض. لكن هذه المرة، لم أر الحاجة لعمل فيديو للتوضيح، ذلك أن قص الحق مشروح بالفيديوهات أيضاً، لذا رأيت الاكتفاء بالإحالة لبعض الفيديوهات دون الحاجة للتوضيح بفيديو مطول كما فعلت مع عمارة الأرض. وهذان هما الرابطان للمهتمين بالحوار حول عمارة الأرض.

هذا رابط فيديو الشيخ لعرض كتاب عمارة الأرض: عرض كتاب عمارة اﻷرض في اﻹسلام

وهذا رابط فيديو الرد: دحض عرض كتاب عمارة الأرض

والرسالة الآتية تتضمن ملحوظات على عرض كتاب قص الحق. وأوصي هنا لمن لم يقرؤا الكتاب بالاستماع للعرض أولاً ثم قراءة هذه الرسالة، وعندها سيكونون مهيئين فكرياً للتفاعل مع الكتاب. فهي رسالة توضح لماذا الشريعة كما نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر كفاءة من النظم البشرية لإيجاد حياة رغدة وبعزة ودونما تلويث وذلك بالإحالة للفيديوهات. فهي إذاً استخدام للعرض للفت نظر المهتمين بقص الحق للنقاط التي يجب التنبه لها للخروج من قفص الديمقراطية والرأسمالية للفهم، فالقفص فخ يندر من يستطيع الخروج منه ،،، دعواتكم

ملحوظات على عرض كتاب قص الحق

ظهر قبل أيام عرض لكتاب قص الحق لأحد الباحثين والمعروفين بين الشباب بالذات في مواقع التواصل. فله الشكر أثابه الله لهذا العرض الذي لفت أنظار عدد كبير من متابعيه الكثر. لكن لابد من توضيحات للمهتمين بقص الحق والتي تتمحور حول انغراسنا الشديد في النظم الحداثية الرأسمالية لدرجة يصعب علينا الخروج منها إلى مرحلة كيفية تطبيق الشريعة. سأبدأ بمثال قد يبدو ساذجاً لكنه صارخ لتوضيح حالنا. (ملحوظة: لغير المهتمين، لعل قراءة أول سبع صفحات كافية). لكن قبل ذلك لابد من لفت النظر لمسألتين: الأولى هي أن قص الحق يرفض الديمقراطية ويدحضها لأنها تسحبنا للفساد والتلوث. إلا أن هذا يجب ألا يفهم منه القبول بالأوليغاركية Oligarchy أو حكم الأقلية، كتفرد حزب أو أسرة أو العسكر بالحكم. فمن المفروغ منه أن الديمقراطية هي أعلى ما أوجدها العقل البشري القاصر، لهذا كان التركيز عليها في النقد مقارنة بالشريعة. المسألة الثانية هي أن الباحث كلما كان أكثر فهماً الشريعة في الحقوق، كلما كان أكثر تقبلاً لتطبيق الشريعة عملياً في أرض الواقع في أيامنا هذه. فالذي لاحظته مع انتشار الكتاب بحمد الله، هو ظهور نغمة أن قص الحق كتاب فكري نظري، كيف إذاً نطبقه في أرض الواقع. والجواب هو أن قص الحق استكمال لكتاب عمارة الأرض والذي انطلق من الواقع، وهذا ما سأحاول إثباته في الصفحات التالية، أي أن قص الحق عملي قابل للتطبيق.

حساء أو شوربة لحم الخنزير

لنقل بأننا ذبحنا خنزيراً على الطريقة الإسلامية، ثم طبخنا لحمه لعمل شوربة واستخدمنا كل ما هو حلال من مواد مثل زيت الزيتون والبصل والطماطم والملح. فهل سيصبح أكله جائزاً بعد الطبخ أم أنه لازال محرماً شرعاً؟ هذا مثال لما سموه بعلم الاقتصاد الإسلامي. فلأن الشريعة لم تطبق في فتح أبواب التمكين في الموارد والموافقات والمعرفة، ولأن الاقتصاد تسيره الدول، فالأموال التي أوجدها النشاط الاقتصادي الحالي مبنية على الاحتكار والذي هو ظلم لشريحة كبيرة من أفراد المجتمع. فهذا المال المجموع ما ظهر إلا لأن طائفة كبيرة من الناس لم تأخذ حقها في كل ما يؤدي للخروج من الفقر كما هو موضح في كتاب قص الحق. فكيف يكون هذا المال حلالا؟ الجواب هو أن هذا مما عمت به البلوى. لذا، فكون أننا مضطرون للتعامل معه لا يعني أبداً القبول به ومحاولة أسلمته. فلابد إذاً من تكوين وعي بأنه ليس إسلامياً وبالتالي علينا المجاهدة لفهم كيف يمكن للاقتصاد أن يعمل مع تطبيق الشريعة دونما ظلم. فكثير من الناس لا يرون الظلم القائم في هذا الاقتصاد، بل يظنون أنه سوء تطبيق من الدول والشركات والأفراد، وليس هو في جوهره نظام اقتصادي سياسي سيسحب للظلم بالضرورة. لذا، فهنالك فرق شديد بين الاضطرار للتعامل معه وبين محاولة أسلمته لأن أصل ظهور هذا الاقتصاد مبني على الظلم بالاحتكار، كلحم الخنزير في الحساء. لهذا فما قام به الكثير من الباحثين في علم الاقتصاد مثل منذر قحف ورفيق المصري ومحمد علي القري أثابهم الله مثلاً من ذم للاقتصاد الرأسمالي محمود، لكن التفاعل معه لتحويله إلى قالب إسلامي يرفضه قص الحق. فمحاولاتهم تتم داخل دائرة تقبل دور الدولة في الاقتصاد مثلاً. وهذا ما يبين كتاب قص الحق فساده. فلم أقرأ أو أسمع عن باحث حاول تفهيمنا كيف يمكن للاقتصاد أن يعمل دون دولة ودون عملات تديرها الحكومات. وفي الوقت ذاته، فإن نظاماً اقتصادياً دون سيطرة الحكومات لا يعني الفوضى كما هو موضح في فصلي الشركة والفصل والوصل، وهذا ما لم يستطع كثيرون من فهمه، لأنهم متقبلون أصلاً لأفكار كبار الباحثين ممن داروا في فلك اقتصادٍ يعتمد على الحكومات كما في سك النقود. أي أن الإشكالية التي يعالجها كتاب قص الحق هي أن الاقتصاد الإسلامي لن يظهر إلا بتطبيق الحقوق التي أتت بها الشريعة في المجالات التمكينية (الموارد والموافقات والمعرفة كمثال). وهنا لابد من التنبه لمسألة، وهي أن استحالة ظهور نظام اقتصادي على أرض الواقع في ظروفنا المعاصرة (برغم أنه موضح نظرياً في فصلي الشركة والفصل والوصل)، لا يعني القبول بنظام اقتصادي يمكن تسميته بأنه إسلامي بمنع الربوا مثلاً واستحداث شراكات بين أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين كشركات المضاربة ، و و و ... ذلك أن النظام الحالي الذي أوجد الثروة برمته مبني على باطل. نعم هنالك من الباحثين من هم على وعي عالي بظلم الاقتصاد الحالي مثل منذر قحف ورفيق المصري أثابهم الله، ويرفضون التوغل الرأسمالي ويبحثون عن حلول جذرية، ومنهم من هم أكثر مسايرة مثل القرضاوي والقرة داغي أثابهم الله، وغيرهم ممن تأثروا بالمدرسة المقاصدية والتي دُحضت في فصول قصور العقل والديوان والمكوس.

المفاهيم أو اللبنات والمسلمات

لقد أثار الأستاذ الباحث الذي عرض الكتاب في عدة مواضع وبطريقة ناقدة بأن قص الحق كتاب يصعب تتبع تسلسل الأفكار فيه. وهنا أقول بأنه محق، لكن لا مناص من هذا الترتيب في الكتاب لأنه الأمثل وبالذات لأجيال لم تتأثر بالرأسمالية أو أولئك الذين يقرؤون الكتاب بتأن، وستأتي هذه الأجيال بإذن الله. لكن المهم الآن هو إثبات أن الأستاذ الباحث كمعظم الباحثين هم داخل إطار فكري يصعب عليهم فيه رؤية التسلسل. ذلك أننا غرسنا عميقاً في الإطار الرأسمالي كما قلت. وللخروج منه لابد من بذل الكثير من الجهد لتغيير الكثير من المسلمات التي غرست فينا. أي أننا (كما كنت أيضاً فيما مضى) داخل سجن فكري لقبولنا بمسلمات ليست من الشريعة أصلاً، وأوجدها لنا العقل البشري القاصر. وهذا ما سأوضحه أولاً بمثال.

عادة ما تمنع أنظمة البلديات ملاك العقارات من تصرفات محددة، مثل منع البناء على حدود الأرض مباشرة، وضرورة ترك مسافة بين المبنى والطريق وتسمى عادة بالارتداد، وهي مثال جيد للمسلمات، هنا في هذه الحالة، فإن المالك للعقار برغم امتلاكه لتلك المنطقة غير المبنية، إلا أنه لا يستطيع البناء عليها. فهو لا يملك حق السيطرة عليها. وهذا وضع يتقبله معظم الناس دون مساءلة لأنه قانون يطبق على الكل، فهو إذاً كما يظنون عين العدل، فهو من المسلمات. لكن مع تطبيق الشريعة، فإن الوضع سيختلف. فللمالك حق البناء على كامل أرضه ودون الإضرار بالآخرين. ولهذا الوضع إيجابيات كثيرة منها ظهور الحوار بين الجيران إن اختلفوا لتحديد ماهية الضرر، ما سيزيد من الترابط الاجتماعي بينهم، وما سيوجد فرداً مسؤولاً واعياً لأنه شارك في اتخاذ القرار، ومنها عدم ظهور طبقة في البلديات شغلها الشاغل وضع الأنظمة ومتابعتها ما سيقلل نسبة العاملين في القطاع العام وبالتالي زيادة نسبة المنتجين فعلياً في المجتمع لأن على هؤلاء الموظفين البحث عن عمل منتج بدل هذا العمل البيروقراطي الذي يُمكنْ للشريعة أن تحله (ويصعب التوضيح هنا، فهو في الكتاب)، ومنها زيادة التجارب العمرانية في المجتمع لأن كل موقع سيكون له حله الأمثل له والذي إن نجح سيقلده الآخرون فيصبح عرفا. وهكذا من العشرات (قلت العشرات) من الإيجابيات التي انتزعت من المجتمع بسبب قانون واحد وهو منع البناء في الارتداد. ناهيكم عن الحرية المؤدية للعزة والتي ستغير الأفراد والتي استثمرتها الشريعة في سكان الموقع. وبالطبع سيثور الآن سؤال في ذهن البعض بأن هذا وضع رومانسي وسيصعب تطبيقه. وجوابي هو: إن كان هذا جوابك، فقد يكون هذا من المؤشرات على الانغماس في النظام الذي لا يحكم بالشريعة. ولعل كتاب قص الحق يعين على الخروج منه.

لقد وضعت المثال هنا لأوضح أن هنالك شيء اسمه حق التصرف أو السيطرة والذي يختلف عن حق التملك. وهذا الاختلاف يعرفه كثير من الناس معظم وبالذات الفقهاء، لكن ما لا يعرفونه هو تراكم تأثير هذا الفرق في مجتمعاتنا اليوم عمرانيا. فكيف إذاً لشخص لا يعرف هذا الفرق أن يفهم كتاب عمارة الأرض أو قص الحق؟ فعادة أحتاج لفصل دراسي كامل للطلاب الجامعيين حتى يعوا تأثير فرق كل من: الملكية مع السيطرة، والملكية من غير السيطرة، وتراكمات ذلك في صحة العمران وبالتالي ازدهار الاقتصاد. لنضرب مثالاً معاصراً: في مدينة نيويورك، كان الاتفاق بين ملاك العقارات ذات الطوابق المتعددة أن تعطيهم المدينة مزيداً من حق التعلي بمساحات بعدد محدد من الأقدام المربعة، والتي ستترجم لعدد من الأدوار حسب مساحة الأرض. ومقابل ذلك، على الملاك ترك مساحات في الدور الأرضي تم الاتفاق عليها مع السلطات لتكون متنفساً للمارة في تلك المنطقة. أي أن المالك للعقار، لم يُمنع من البناء في الارتداد فقط، ولكن أيضاً عليه السماح لعموم الناس من الاستفادة من ذلك الارتداد بالجلوس فيه أو المرور من خلاله، وهكذا من نشاطات لمصلحة العامة من الناس. ولكن الذي حدث هو أن معظم أصحاب العقارات استفادوا من التعلي مع منع الناس من استخدام الارتداد مقابل دفع غرامات لأنهم خالفوا الاتفاق. فكان دفعهم للغرامات أقل بكثير من استفادتهم المالية من التعلي. فمثلاً، استفاد مالك أحد العمائر ما قيمته ٨٠ مليون دولار من المساحات كمساكن بالأسعار السائدة سنة ٢٠٢٠ (أي إن فكر ببيعها في تلك السنة)، وفي الوقت ذاته خالف الاتفاق بمنع الناس من الاستفادة من الارتداد ودفع الغرامة التي كانت خمسة آلاف دولار فقط في السنة. وهذا مثال واحد لتوضيح ضرورة فهم الفرق بين الملكية والسيطرة لفهم الاقتصاد. ومثل هذه المسائل نوقشت في كتاب قص الحق. ففي الشريعة لا تُنقل الحقوق كما حدث في نيويورك، وليس للسلطات منح حق التعلي، بل هو حق للمتضررين من المحيطين بالعقار، وهكذا لن تظهر الإشكاليات التي تفتح احتمالات ظهور الرشاوي والمرافعات والشكاوي بين جميع الأطراف، ما سيستنزف المجتمع بإشغال طبقة من الناس بمسائل كان بالإمكان جذها فلا تظهر ابتداءً ما سيوفر الأيدي العاملة لتعمل فيما هو إنتاجي فعلاً (وليس بطالة مقنعة كما هو موضح في الكتاب). وهذا من تأويل قص الحق لقوله تعالى في آية قص الحق: (وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)، والله أعلم. وهذا رابط المقالة في النيويورك تايم The New York Time والذي ظهر قبل أيام (٢١ يوليو ٢٠٢٣).

والآن لنقل بأن معرفة تأثير الفرق بين الملكية والتصرف أو السيطرة على العمران هو مفهوم أو لبنة واحدة يجب أن تكون في ذهن من يقرأ كتاب قص الحق حتى يستمر في الفهم. وهذه اللبنة لن تفهم إلا بلبنة أخرى توضع فوقها أو بجانبها إن أردنا مثلاً بناء فكرة في ذهن القارئ. ولنقل بأن اللبنة الأخرى هي الفرق بين الكلمات الآتية: الإحياء، الاحتجار، الاختطاط، الإقطاع. هذه الكلمات الكل يعرف معانيها ويعرف الفروق بينها. لكن كم هم الذين يعرفون تأثير الفرق بينها إن تراكم على مدى عشرات السنين، ذلك أن لكل واحد منهم تأثير مختلف عمرانياً واجتماعياً واقتصادياً (وهو موضح في الكتابين)؟ وهذه لبنة ثانية. هاتان اللبنتان ليستا الأهم. لكن وضحتهما لأنهما مما يسهل تلمسه. وهنالك الكثير من اللبنات التي لابد لمن يقرأ قص الحق من فهمها أولاً ثم سيتمكن من عرض الكتاب أو نقده.

الآن سأضع لكم بعض اللبنات أو المفاهيم الأساسية والتي لم تظهر في عرض قص الحق، ما أدى لعرض أظهر الكتاب على أنه كتاب ناقد لمجتمعاتنا المعاصرة ولكبار الفقهاء، أكثر من كونه كتاباً موجهاً لبناء الأمة وتخليص البشر من الفساد الأخلاقي والتلوث البيئي. من هذه المفاهيم أو اللبنات الآتي مع روابطها:

الفرق بين التسخير والتذليل: https://youtu.be/Q6tLjWz4Q3M

الكتل الاقتصادية: https://youtu.be/l-ImHmf6Lb0

حيازة الضرر: https://youtu.be/4lcxgkBPxy8

سنة التدافع في الزكاة: https://youtu.be/4lcxgkBPxy8

الفرق بين التكاتف والتكامل في الإنتاج: https://youtu.be/ueHlE5TB-so

الموارد والموافقات والمعرفة وعلاقتها بالعبودية: https://youtu.be/oRnQUb_suWc

زيادة نسبة المسيطرين وهي تختلف عن زيادة نسبة الملاك: https://youtu.be/_E380ut9N8w

القيم والنظم والمعرفة: https://youtu.be/CmSUt3e1w1k

المعرفة والموجودات والسيولة النقدية: https://youtu.be/T8TynFhFmf8

الضروريات والحاجيات والكماليات (رابطان):

https://youtu.be/yFRu_Irv-IA، https://youtu.be/ILFXkLiDatw

العمل ثم الاستهلاك، أم الاقتراض ثم الاستهلاك والتلوث: https://youtu.be/4YNVCJVMp6o

هذا السابق هو عينة من المفاهيم أو اللبنات التي لا يمكن من دونها فهم قص الحق والتي لم تظهر في العرض. وفوق هذه الإشكالية، ومترتبة عليها، هنالك إشكالية أخرى وهي التربيط. كيف؟

التربيط

من أهم الإشكاليات التي تواجه الكثير من الباحثين هي تربيط أحكام الشريعة مع بعضها لنفهم كيف يمكن أن تعمل في أيامنا هذه. فكثير من الباحثين، نظرتهم للأحكام أحادية. فإن سئل باحث عن أحكام المواريث التي ذكرت في سورة النساء سيبدع في الإجابة. وإن سئل عن الشفعة سيبدع في الإجابة. لكن ربطهما معاً ومع الغرائز الإنسانية لفهم تأثيرهم في العمران والاقتصاد، فهي مسألة أخرى.

لأضرب مثالا عن أهمية التربيط من قص الحق. ما العلاقة بين كل من: ١) ربوا الفضل، ٢) مقاعد الأسواق، ٣) عدم سك الرسول صلى الله عليه وسلم للدينار والدرهم، ٤) منع تلقي الركبان، ٥) والأحاديث الآتية: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له، المسلمون شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار، لا حمى إلا لله ولرسوله؟ إن التربيط بين السابق هو مثال واحد لما يحاول كتاب قص الحق توضيحه في مسألة الاحتكار في العملات. وبالطبع ليس مكان شرحها هنا، فهي في الفيديو بعد الدقيقة ٣٩ و ٢١ ثانية في الرابط: https://youtu.be/RlbbYTQSoK4

وبالإضافة للتربيط السابق بين ربوا الفضل ومقاعد الأسواق المؤدي للاستنتاج بجذ الاحتكار كأساس للعملات، هنالك تربيط آخر بين هذا الاستنتاج وبين التوثيق المتبادل ومن ثم التربيط بالخطط الإنتاجية، عندها ستظهر القناعة عند المتابعين بإمكانية إيجاد اقتصاد خارج سيطرة الحكومات ما يجعله اقتصاداً مزدهراً دونما ظلم. ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، وبرغم غلق أبواب التمكين نسبياً مقارنة بالشريعة، فقد كان الاقتصاد أكثر صحة في القرن السابع عشر عندما لم تسيطر عليه الحكومة المركزية، بل كانت بنوك محلية هي من تقوم بترتيب التبادلات المالية كما هو موضح في فصل الفصل والوصل. ومن التربيطات المهمة، ربط ما رُبّط بالخطط الولائية والإنتاجية والمكانية كما في الحلقة: https://youtu.be/uoqwOJCmvYY ومن لم يفهم هذه التربيطات سيتأكد أن الدنيا ستعمها الفوضى.

هذا بالإضافة أن كل خطة موضحة في حلقة واحدة أو عدة حلقات. وهذه الخطط هي التي تؤدي للاستقرار في ظل دولة لها خليفة واحد. وكل هذا سيفهم فقط بعد تربيط اللبنات ومن ثم تربيط ما رُبّط بالخطط الثلاث. وبالطبع سيثور هنا سؤال، كيف ستوزع الثروات إن كان هنالك خليفة ويعيش في عاصمة ما، وخِطط مستقلة ماليا. والجواب هو: هذه مسائل جذرية وضحت في فصل ابن السبيل. وكمثال فقط، ليتكم تشاهدون الحلقات الأولى من فصل ابن السبيل والتي تتحدث عن المركزية واللامركزية كما في الرابط: https://youtu.be/Vko3eD1eq78

وكتاب قص الحق كله تربيطات لما رُبط والتي بعدها سيفهم الناس كيف يمكن للشريعة أن تعمل في أيامنا هذه. ولإدراكي بأن المتابعين قد ينسون التربيطات، كنت أذكرهم بها مراراً بين الفصول وفي بدايات اللبنات بربطها بالسابق، وكنت أصر دائما على المشاهدين شفاهة بضرورة المشاهدة بالترتيب للحلقات وعدم القفز بينها، إلا الأستاذ الباحث ظن أنها تكرار ليس له داع. فوقع فيما كنت أخشاه، ألا وهو الآتي: من لم يستطع التربيط وبوعي لما يمكن أن تُحدثه اللبنات في المجتمعات، ومن ثم لم يستطع تربيط التربيطات، سيبقى حبيساً داخل قفص الرأسمالية فكرياً. فمعظم الناس على قناعة على أن ما صلح لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم كما أنزل عليه، ليس بالضرورة صالح لزماننا. فكم سمعت العبارة الآتية: «هل ما صلح لدويلة المدينة المنورة، سيصلح لإمبراطورية الآن كالولايات المتحدة الأمريكية؟» وسبب رفضهم هو عدم رؤيتهم لما يمكن أن يحققه تربيط الأحكام. لهذا، فإن التربيطات ضرورة حتى نرى عظم الشريعة في مقدرتها من خلال تفاعل أحكام الشريعة مع بعضها للاستجابة لجميع الظروف المتجددة وبطريقة أكفأ. مثل هذه التربيطات المهمة هي ما لم يتمكن العرض للكتاب من تبيانه، بالتالي لن يتقبل المشاهد احتمالية ازدهار الاقتصاد بأمان خارج إطار الدولة. بالطبع منكم من سيقول: لكن يا جميل لا دليل على أن الباحث لم يلم بهذه اللبنات والتربيطات. كما أنه عرضٌ لعامة الناس، فلا حاجة إذاً للولوج في تفاصيل معقدة تنفر المشاهدين. عندها جوابي هو الآتي:

الحق والاجتهاد والتطرف

إن من أهم الإشكاليات وبرغم وضوحها هي عدم التفريق بين ما هو حق وما هو ليس بحق. فكل شيء يمكن تطويره مما يمس حياة الناس ومتطلباتهم، لكن هنالك مسائل لا يمكن تطويرها مثل العقيدة، ولا نريد الخوض فيها. ولكن ماذا عن الحقوق؟ هل يمكن تطويرها؟ كتاب قص الحق يقول بأنه لا يمكن تطوير الحقوق. ذلك أن التطوير يعني التغيير، والتغيير يعني زيادة أو نقصان حق ما. فإن زاد نصيب فرد في حق مشترك، فهو لابد وأن يكون على حساب نقصانه عند آخرين، وهذا ظلم. وأبسط مثال هو الآتي: إن كان لأخوين حق أخذ مبلغ من أبيهم شهرياً، وطالب أحدهم بالزيادة، والمال محدود، فلابد وأن تكون الزيادة على حساب ظلم الأخ الآخر. فمتى ما تغير الحق ظهر الظلم. فهو يجب ألا يتطور لأنه من عند الله العليم الحكيم. فهو ليس كالعلوم الطبيعية كالأحياء أو العلوم الإنسانية كعلم الإدارة أو كالتقنية التي تتطور باستمرار.

ومن جهة أخرى، فإن جميع القوانين ومعظم القرارات الحكومية هي حقوق. فإن قررت السلطات منع صيد السمك إلا بتراخيص، فقد فقدَ الناس حقهم في الصيد. وقد يكون هذا في مصلحة الجماعة أحياناً على حساب ظلم البعض. وإن قررت السلطات بناء سد ما، ما يعني ازدهار الاقتصاد في تلك المنطقة بسبب المنافع المتوقعة من البناء، فهذا يعني ترحيل من هم في المناطق التي سيغمرها الماء. وبهذا فقدوا حقاً لهم إن اصروا على البقاء ثم رُحّلوا. وإن تم إغراؤهم وتعويضهم، فقد تحسن حالهم بأموال غيرهم التي في مناطق أخرى فتتغير موازين الحقوق وبالتالي موازين القوى فيظهر الاستعباد والاحتكار و و .... وهنالك العديد من الأمثلة لإثبات هذا في كتاب قص الحق. فحاولي أختي القارئة وأخي القارئ أن تقوم بتمرين تحاول فيه تغيير منظومة حقوقية بتغيير القوانين مثلاً، وستلحظ مباشرة أن الظلم سيظهر لأن هنالك خاسر مقابل كل كاسب. وهنالك تفاصيل كثيرة ليس هذا موضع توضيحها، فهي في الكتاب، مثل أن الأخذ ليس بالضرورة سيؤدي لإنقاص حقوق الآخرين كما في إحياء الأرض. ولعلكم تقولون: لكن تغيير الحقوق أحياناً بتطويرها خير. مثل قانون منع الناس من أخذ المعادن وإعطائها كحق امتياز لشركة متمكنة ومن ثم دفع المال للسلطات التي ستقوم باستثماره في مشاريع كبرى تفيد الشعب. وهذا خير. الجواب هو أن هذا المنطق هو الذي ينقضه قص الحق ويثبت فساده إن كان الحكم بغير الشريعة وبالتالي سيؤدي للتلوث والفساد بسبب الاحتكار، بينما مقصوصة الحقوق تفعل العكس. فلابد من قراءة قص الحق أو مشاهدة الحلقات.

أي أن مقصوصة الحقوق التي أتت بها الشريعة يجب ألا تتغير. وما يصر عليه كتاب قص الحق هو أن هذه المنظومة الحقوقية المستنبطة من الآيات والأحاديث وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وما لم يفعله، لن نفهمها إلا إن ربّطناها كما في مثال ربوا الفضل ومقاعد الأسواق والذي سبق ذكره. وهو ما سميته بمقصوصة الحقوق تمييزاً لها عما ينتجه البشر من منظومات حقوقية كما تفعل الديمقراطيات والرأسماليات والاشتراكيات وما شابه من منظومات.

هذه المقصوصة متى ما تغيرت سيظهر الفساد والتلوث لأن تغير الحقوق سيُغير موازين القوى بين أفراد المجتمع كما حدث مع الحداثة والديمقراطية لأن القوانين الصادرة من هذه المجتمعات هي من العقل البشري القاصر والذي لا يعلم الغيب. فمقصوصة الحقوق إذا غير قابلة للتطوير لأنها أتت من الله سبحانه وتعالى مكتملة. وفوق هذا، فهي الأعلى في إطلاق أيدي الناس للخروج من الفقر مع التمتع بالحرية في الإنتاج وبتحريك الناس للازدهار الاقتصادي دون الصدامات فيما بينهم و و ... والمئات من المحاسن الذي يوضحها الكتاب. وكنت مرة في مؤتمر جمع مقاصديين في إسطنبول وطلبت منهم أن يعطوني مثالاً واحداً استنبطتموه بالاجتهاد بدعوى تغير الظروف بين عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وحاضرنا ولن يؤدي للظلم، ذلك أن اجتهاداتهم في الحقوق عادة ما تؤدي إلى زيادة مساحة حقوق السلطات على حساب حقوق الأفراد كما وقع مع منع إحياء الأرض، لكنني لم أتلق جواباً. أي أننا لسنا بحاجة للاجتهاد في الحقوق، بل بحاجة لفهم كيفية عمل أحكام الشريعة معاً لوضعنا المعاصر، فإن أثبتنا أنها لن تعمل وبكفاءة، عندها يحق لنا الاجتهاد. وهو ما لم يقم به الباحثون، وهو موضوع كتاب قص الحق.

أي أن لدينا موقفين، الأول يقول بأننا بحاجة للاجتهاد لتغير الظروف بحجة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان (وهو كذلك)، وبمثل هذه النداءات تغيرت مقصوصة الحقوق لمنظومات أخرى، وهذا الموقف هو المنتشر بين معظم الباحثين. ولربما لقلة إلمامهم بعلوم التنمية وتلافياً للحرج، سكتوا عن القوانين العمرانية والاقتصادية التي لم تنبثق من الشريعة. وهكذا تغيرت مقصوصة الحقوق إلى أنظمة وضعية سحبت مجتمعاتنا المعاصرة إلى الفساد والتلوث والإلحاد والشذوذ والمخدرات و و ...

والموقف الثاني يقول بأن الشريعة بعد تربيط أحكامها ستعمل بكفاءة وأنها ستؤدي لحضارات دونما فساد وتلويث للمسلمين ولغير المسلمين. أي أن سبب جميع ما نحن به من فساد وتلوث مرده عدم تطبيق الشريعة كما نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم ودونما اجتهاد.

إن أصحاب الموقف الأول الذين يرون ضرورة الاجتهاد في الحقوق، ولإثبات موقفهم علمياً، عليهم الإتيان بحالة واحدة فقط لإثبات أن مقصوصة الحقوق قاصرة ولن تستطيع التعامل مع الظروف المتجددة لأيامنا هذه (كما قال كارل بوبر مثلاً في كتابه المعروف Conjectures and Refutations). حالة واحدة فقط ستجهض ما أنادي به وتثبت الحاجة للاجتهاد. وهنا أطلب منهم حالة واحدة فقط لإثبات موقفهم. هم لا يأتون بحالة (ولا أقصد هنا الذي عرض الكتاب، بل غيره) بل يلجؤون لتعتيم الوضع (ليس مناكفة ولكن جهلاً) لأنهم لم يفرقوا بين ما هو حق، وما هو ليس بحق. فعادة ما يلجؤون إلى اجتهادات الصحابة ومن بعدهم في مسائل غير حقوقية لإثبات ضرورة الاجتهاد في الحقوق. فمثلاً قال الأستاذ الباحث أن الصحابة اجتهدوا وجمعوا القرآن. وهذا بالطبع اجتهاد لا يؤثر في الحقوق. فلن ينقص حق أحد بجمع القرآن، بل هو خير كثير. لكنهم، أي الصحابة، لم يقولوا بمنع الإحياء أو تغيير أحكام آيات المواريث أو منع امتلاك المعادن لمن حازها، أو إبطال العمل بمنع بيع الحاضر للباد. ثم جاء من بعدهم من غيروا الحقوق لعدم تمكنهم من التربيط تحت مسميات مختلفة كالمصلحة العامة والتي نقضها كتاب قص الحق (مثل الإفتاء بجواز نزع الملكية للمصلحة العامة مثلاً). وهناك الكثير من الآثار والأمثلة التي يوضحها الكتاب والتي لجأ إليها الباحثون لإثبات الحاجة للاجتهاد مثل حادثة تأبير النخل. وهذا الخلط بإسقاط ما هو ليس بحقوقي من آثار السلف رضوان الله عليهم على ما هو حقوقي كدليل للاجتهاد في الحقوق، نبهت عليه مراراً وتكراراً في الكتاب مع المرور على أدلتهم التي أثبتوا منها الحاجة للاجتهاد في الحقوق بدحضها بتوفيق الله.

ولعل من الأمثلة الواضحة لهذا الخلط هو الخلط بين الحقوق والتنظيم كأنظمة المرور. فأنظمة المرور مثال جيد. فعلى الجميع الوقوف عند الإشارة الحمراء، لكن إن سُمح لطبقة من ذوي الدماء الزرقاء، أو لأبناء قبيلة ما دون أخرى من المرور والإشارة حمراء، وأنه حق لهم، نقول أن الحقوق تغيرت. وبالموازاة للفهم، إن منحت السلطات حق استخراج معدن ما لشركات بعينها ومنعت عموم المسلمين من الاستخراج، فهنا انحراف عن مقصوصة الحقوق. وهذه المسألة الحقوقية كمثال لا ترتبط بموقع معين كاليمن أو إندونيسيا، ولا بزمن معين كما إن وقعت بأمر من هرقل الرومي قبل أكثر من ألف سنة أو بشار الأخرق في أيامنا هذه. فهي مقصوصة حقوقية ثابتة. وهذا الخلط يقع فيه الحداثيون والعلمانيون ومثلهم كثير كأولئك الذين يتبنون الاقتصاد الرأسمالي أو الديمقراطيات ولكن بأسلمتها. وقد يتبادر إلى الذهن، ولكن كيف ستظهر إشارات المرور دونما سلطات. التوضيح في الكتاب ذلك أن الشوارع عموماً إما ملك للسكان وإما تحت سيطرتهم حسب كثافة الطريق في الاستطراق، وجميع المرافق التي هي أعقد من المرور مثل شبكات المياه أو الصرف الصحي هي تحت نظر وتنفيذ السكان. لكن هذا لا يعني أن الناس سيقومون بهذه المهام بالضرورة بأنفسهم، لكن قد تقوم بها شركات ربحية متخصصة وليس الدولة، ما يزيد الكفاءة دون تسلط، و و ... وتفاصيل أخرى كثيرة لابد من التربيط لفهمها بمتابعة الحلقات أو قراءة الكتاب. لنتذكر دائما أن عموم الناس في رغد بتطبيق الشريعة التي تفتح أبواب التمكين، ما يمكنهم من إدارة عمرانهم من خلال شركات التخطيط أو أو ... كما هو موضح في الكتاب. إلا أن هذا الوضع سيصعب تصوره وتقبله لأننا اعتدنا على وضع تقوم به الدول بهذه المهام، فظهر فرد منقاد مستعبد ذليل. وهو عكس ما تحاول الشريعة فعله، أي إيجاد فرد مغتنٍ وعزيز ومسؤول ومشارك في قرارات حيه ومدينته وبالتالي له قول في مسار أمته كما يحاول كتاب قص الحق إثباته.

لقد أثر الباحث مسألة شعوره أن كاتب قص الحق يؤمن بطريقة أو بأخرى بفكر الأناركية والتي ترجمت للفوضوية والتي تؤمن بعدم ضرورة وجود السلطة، أو اللاسلطوية. وأن جميل أكبر يحاول أسلمة هذه النظرية. ويستمر بأنه يخالف مؤلف كتاب قص الحق، وأن كل فقهاء الإسلام سيخالفونه باستثناء طائفة من الخوارج الذين كانوا من المتمردين على السلطة. وهنا توضيحين: الأول هو أن مقصوصة الحقوق استنتجت من عشرات الآيات القرآنية وليس بأسلمة الأناركية، وحتى يثبت أي ناقد أنها أسلمة للأناركية، عليه أن يدحض تأويل الآيات التي رجع إليها كتاب قص الحق لاستنتاج مقصوصة الحقوق. عندها يكون النقد علمياً. لكن الآيات وباستثناء آيتين، لم تُذكر في العرض. فإن كانت آيات الغنائم والفيء والصدقات، تذهب بالأموال في جلها لأناس مستحقين سمتهم الآيات (فقراء، مساكين، ابن سبيل، غارمين)، وليس لبيت المال كما هو موضح في فصلي الأموال ودولة الناس، فهل يكون المؤلف مؤسلماً للأناركية؟

والتوضيح الثاني بالتلميح بأسلمة الأناركية هي أنه قال ما قال، لعدم تمكنه من رؤية الحلول الأفضل التي ستظهر إن طبقنا الشريعة. وبالطبع، فمهما بررت هنا لمن لم يقرأ الكتاب بتأنٍ فلن أفلح في إقناعه بأن الشريعة كما نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم صالحة لزماننا. لكن هنالك مخرج فكري لإشكالية الحاجة للاجتهاد مع الحقوق وهي الآتي:

لقد أتت الشريعة بمهام محددة للسلطات مثل رفع راية الجهاد والفصل بين المختلفين بالقضاء ومهام لخصها الإمام البخاري رضي الله عنه في صحيحه مثل: الزكاة، المظالم، القضاء، الشهادات، استتابة المرتدين، الحدود، المحاربة، الموادعة، المغازي، الجهاد والسير، الديات، الإكراه، الأحكام، الاعتصام. وجميع هذه المهام وغيرها المنصوص عليها، ولأننا مسلمون، لابد لنا أن نسلّم أنها من مهام الخليفة. فإن أردنا زيادة أي مهمة على هذه المهام، لابد لنا من الإثبات أنه إن قام بها الحاكم فهو الأصلح للأمة. لكن إن أثبتنا أن مقصوصة الحقوق مع المهام المحددة المنصوص عليها للخليفة هي الأمثل للأمة، عندها فإن مقصوصة الحقوق هي الأصلح دون زيادات للمهام، مثل فرض الجمارك لبناء المستشفيات، وبالتالي لا حاجة للاجتهاد في الحقوق. بل محاولة فهم كيف ستعمل الشريعة بربط أحكامها دونما اجتهاد. ولكن لعدم فهم الباحثين لمقصوصة الحقوق بعد التربيط، ولأن بعضهم ظن أن الشريعة حقوقياً يجب أن تتطور لتجاري العصر لأننا الآن بحاجة للمطارات مثلاً وأن هذا بحاجة للأموال وأن مصادر الأموال من المصادر المنصوص عليها شرعاً غير كافية، كان موقفهم متراخياً، فلا إشكال لديهم إذاً من التغاضي عن تحريم المكوس والقبول بها تحت مسميات مختلفة كالجمارك والرسوم ومنع الناس من أخذ المعادن، بل وحتى تمليكها للسلطات و و .... كما ذهب القرضاوي مثلاً وغيره رحمهم الله. أي لهذا ولعدم المقدرة على التربيط، تنازل بعض الفقهاء واحتار آخرون.

قلت أن هنالك مخرج، أي أن المخرج الفكري للإجابة على السؤال: هل نحن بحاجة للاجتهاد مع الحقوق هو الآتي: آتوني بمثال واحد لصلاحية واحدة أو مسؤولية واحدة لابد للحكومات من التمتع بها لتنفيذ مهمة أو حاجة للمجتمع أو الأفراد ولن تستطيع مقصوصة الحقوق من التعامل معها وبكفاءة أعلى إلا بزيادة مهام السلطات. فإن تمكنتم، عندها أقر أننا بحاجة للاجتهاد في الحقوق. لأضرب أمثلة: كيف ستتم صناعة الأسلحة المتطورة مع مقصوصة الحقوق في وقت لا مال فيه للسلطات؟ وكيف ومن سينشئ المرافق التي يحتاجها الناس كالطرق وشبكات السكك الحديدية والجامعات والمطارات والبنى التحتية كشبكات المياه والصرف الصحي والهواتف؟

لقد أثار الباحث سؤالاً هو: أنه إن لم تكن للدولة أموال، فمن أين ستأتي الخدمات مثل الصحة والطرق و و ... وأن جميل أكبر قال أنه سيفصلها في فصل الأماكن، ولأن الفصل لم يُكتب بعد، فلا وسيلة إذاً له لاستكشاف ما لدى المؤلف حتى مع قراءته للمجلدات الثلاثة.

أظنه مع انشغالاته ومع سرعة القراءة، فاتت عليه الحالات التي تربط مقصوصة الحقوق بواقعنا من خلال الأمثلة الملموسة مع إثبات أنها هي الأكفأ لواقعنا المعاصر لأنها توفر جميع ما نحتاجه وبطرق أمثل إن طبقنا الشريعة كما نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد وضحت في الكتاب وفي الحلقات كيفية ظهور الشراكات لتوفير جميع المرافق مثل المطارات والجامعات والطرق السريعة وشبكات السكك الحديدية ونقل الخيرات مثل النفط والغاز بين الأقاليم والقارات، وكيفية الحصول على الخامات لتحويلها لمنتجات، وكيفية ظهور المصارف وميلاد العملة والتبادلات التجارية تحت نظام لا تسيطر عليه الحكومات. ولأن هذه الأمثلة لم تذكر في العرض، سيتيقن من شاهد العرض بأن الشريعة لن تصلح لحالنا اليوم. نعم أنا قلت في الكتاب أن مثل هذه المسائل ستفصل في فصل الأماكن، لكن كان القصد هو التفصيل الدقيق لجميع المرافق التي ستخطر على بال كل قارئ كما فصلت سيناريوهات احتمالات ظهور المستشفيات في آخر فصل الفصل والوصل. أي أن كل هذه المرافق والخدمات ستأتي مع تطبيق الشريعة إما من الأوقاف أو كسلع تباع أو تضامناً بين السكان كأعراف كما هو موضح في الكتاب. وبالطبع لابد من التذكير هنا أن الناس مع تطبيق الشريعة في الحقوق سيكونون غير هؤلاء الذين هم في عصرنا الآن من حيث المقدرة المالية والمبادرة والإحساس بالمسؤولية والإيثار و و ... والكثير من القيم الفاضلة التي ستشد المجتمع للسمو جيلاً بعد جيل. لهذا كنت مراراً أركز على المسائل التي تشد فيها الحركيات بعضها بعضاً ليسمو المجتمع في قيمه وأمنه وسعادته وعزته وفي غزارة إنتاجه وإتقانه ... إلخ.

وهنا تفصيلة، وهي كون أنه لا مال للسلطات للإنفاق على المرافق، لا يعني أبداً عدم حث ولاة الأمر الناس للمبادرة كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع بئر رومة وبتحريض المسلمين على الجهاد وتجهيز الناس بعضهم لبعض والكثير من المسائل المذكورة في الكتاب. فللإمام الحث وليس الإرغام بأخذ المكوس لتحقيق ما يرى فيه المصلحة. هنالك فرق شديد بين ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من حث وبين الإرغام.

لقد وضح الباحث بعض المفاهيم بطريقة سيستنتج منها المتابع أن أفكار الكتاب بها تطرف بقوله: «وهذا في حد ذاته تطرف». كما أنه قال مستنتجاً أن جميل أكبر يقول: «فالأصل في الشريعة حسب رأي المؤلف أنه لا يحق للسلطان أصلاً في المنظومة الإسلامية أن يفعل أي شيء. لا يأخذ الأموال ولا يسعر ولا يفرض الضرائب ولا يمول الجيوش وإلى آخره، فنحن ننتزع من يده كل هذه السلطات حتى لا نقول بعدها إنه يجب أن يفعل كذا وكذا». انتهى كلامه. وبالطبع لابد لي أن أجيب، ليس على الباحث فقط، ولكن على كل علماني وكل من يريد أسلمة الديمقراطية. وإجابتي هي:

إن لم تروا صلاح مقصوصة الحقوق لزماننا ، ولم تقدموا ما يثبت عدم مقدرة الشريعة على القيام بكل ما يحتاجه البشر لكل الأزمان، ولم تأتوا بما يثبت الحاجة لزيادة مهام السلطات لإثبات اللجوء للاجتهاد، ولم تقرؤا الكتاب بتأنٍ، ولم تشاهدوا الحلقات، ... ثم تقولون إن جميل أكبر أناركي، أو يقترب من التطرف أو حتى متطرف. عندها، ماذا عساي أن أفعل ؟

والسبب لهذا الرفض لقص الحق كما فهمت من الحوارات معهم، هو قناعتهم بأنه إن لم يكن للدولة أموال أو سلطات خارج المنصوصة عليها شرعاً، فلا خدمات ولا أمن ولا ولا..، فالفوضى إذا المصير. لهذا كنت أقول باستمرار: «كون أنك لا ترى الحل مع تطبيق الشريعة، فهذا لا يعني أنه غير موجود». أي أنهم في سجن فكري نسجته الحداثة بديمقراطيتها. وقد يذهب ظن البعض أن جميل أكبر يميل إلى الأناركية والسبب أنهم لم يروا أن الفراغ الحاصل من عدم وجود السلطات هو ما تملؤه مقصوصة الحقوق وبكفاءة أعلى.

أي أن من يتبنون العلمانية برفض الشريعة، ومن يريدون أسلمة الديمقراطية، ودون إثبات علمي، لا يكتفون برفض مقصوصة الحقوق، بل ينعتون مستنتجها أيضاً بأنه متطرف. ففي مواضع أخرى يؤكد الباحث أن المؤلف سلفي أكثر من السلفيين، وهكذا سيظهر المؤلف متطرفاً في أنظار من هم ليسوا متعاطفين مع السلفيين. فأقول: إن كانت السلفية هي التمسك بالنصوص، فأنا سلفي. أي أن قناعتهم هي (وبالطبع بحسن نية لأنهم لم يروا كيف يمكن للشريعة أن تطبق أيامنا هذه): إما أن تكون معنا في ما يهلك الحرث والنسل، وإلا فأنت متطرف. ومسألة ضرورة إهلاك الحرث والنسل بالحكم بغير ما أنزل الله بالطبع ملموسة الآن في المجتمعات التي لا تحكم بما أنزل الله من تلويث للأرض في البر والبحر، وهي مستنتجة من القرآن الكريم أيضاً من قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)، كما في الرابط: https://youtu.be/ZR7ThTUoaiQ

ليتنا نتذكر دائما أن الثروة في أي مجتمع هي حصيلة تفاعل العقول والأيدي العاملة مع الخيرات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في أرضه، فهو المعطي الواهب الوهاب الرازق الرزاق الكريم الجواد الغني المغني الولي المتولي المحسن. هذا التفاعل هي ما تتقن مقصوصة الحقوق تفعليه لينعم الناس بالمنتجات دونما استعباد أو إسراف أو تلويث أو أو ... عندها ولأن الناس في مستوى عالٍ من الرغد ماليا، وسمو في الأخلاق و و ... ستظهر الخدمات والمرافق تضامناً بين الناس كأعراف، أو في الأغلب كسلع تنتجها الشركات (والتي يملكها من يعملون بها في الغالب) من غير بلادة إنتاج وبكفاءة عالية، أو من الأوقاف (وهنالك تفاصيل عن الأوقاف ذلك أنها عانت مؤخراً من سوء الإدارة واللاكفاءة، لأن الشريعة لم تطبق فيها كما حث الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو موضح في عمارة الأرض وقص الحق وفي الحلقات، أي أن سوء التطبيق الذي وقع في الأوقاف ليس معياراً لقياس مقصوصة الحقوق).

وهنا لأضرب مثالين من مئات الأمثلة من باحثين لم يعطيا أهمية لثبات الحقوق زمنياً ولا مكانياً، فرفض أحدهم الشريعة تماماً يقيناً منه باستحالة تطبيقها كمعظم العلمانيين. وأبحاثه تحاول تحسين حال العرب بتلافي الشريعة قدر المستطاع، وتجدون الرد عليه في الفيديو في الرابط: https://youtu.be/7899rponhSg

وذهب الآخر للاجتهاد بالتفريق بين أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كتوجيه حقوقي لابد من تطبيقه، أو كنصيحة ليست بملزمة لنا، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا التمر قبل بدو صلاحه». فقال مشيراً للحديث بأنه ليس «حكماً شرعياً، ولكن لحسم أدوات النزاع بين المسلمين آنذاك». ‏وتجدون قوله في الدقيقة بعد الخمسين في الرابط: https://youtu.be/ZfvpAZ-gthY، أما الرد على ما ذهب إليه فتجدونه في الثانية السادسة بعد الدقيقة الثالثة، أي في أول الحلقة ١٢٤ من قص الحق في الرابط: https://youtu.be/tvRZQeVFluI، وهذه الحلقة هي مثال واحد يوضح لماذا مقصوصة الحقوق هي الأفضل للبشر كنظام حقوقي، تحت عنوان: القمة والتحدي، والمقصود بالقمة هو أنه لا يمكن الوصول لمنظومة حقوقية هي القمة في إطلاق الناس كما تفعل الشريعة. والتحدي هو وضع تحد لكل من يزعم أن الحقوق التي أتت بها الشريعة بحاجة للتغيير بسبب تغير الظروف. لهذا يجب أن تبقى مقصوصة الحقوق كما هي.

وقبل الانتقال للعنوان التالي لابد من توضيحين: الأول هو أن منهجية قص الحق فيما علينا الالتزام به شرعاً في الحقوق، أي فيما هو ملزم لنا من القرآن الكريم ومن قال الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل أو لم يفعل (أي الحجية)، موضح في فصلي قصور العقل والمكوس.

والثاني هو: عندما قلت أنني أريد مثالاً واحداً لنقض قص الحق، ليس المقصود بأنني سأتفرغ للرد على كل من يرسل لي نقداً أو تساؤلاً، فقد أرسل لي أحدهم رسالة ناقدة بعد ما سمع عن قصور العقل قائلاً: «وهل دخلت عقلي وعقول الناس لتعرف أنها قاصرة؟» وبالطبع هو ما قال هذا إلا لأنه لم يقرأ فصل قصور العقل أو لم ير أو يفهم الحلقة التي تبين أن هنالك أربع سبل للحضارات في الظهور من حيث العقلانية وهي الموضحة في الرابط. أي أنني لن أرد على كل من خطرت له خاطرة، فهم كُثر، إلا أن كان النقد بعد فهم قص الحق بعد القراءة أو المشاهدة. وهذا رابط الحلقة التي تبين سبل العقلانية الأربع في تشكيل الحضارات: https://youtu.be/Y4z1MdEvSuY

مسائل محورية لم يتطرق لها العرض

ومن الإثباتات إلى أن اللبنات والتربيطات لم تكن مستوعبة، هي أن العرض لم يذكر قضايا مهمة لوضعنا الحالي. ومن أهمها التنمية المستدامة ، فكتاب قص الحق يثبت أنها لا مخرج حتى لغير المسلمين للوصول لتنميات مستدامة إلا باتباع الشريعة في الحقوق، وليس بالضرورة في العبادات مثل الصلاة والصيام (بالطبع لغير المسلمين). ولقد أثار كتاب قص الحق هذه المسألة وعلاجها ومن زوايا مختلفة، مثل أن الديمقراطيات توجد البيروقراطيات والتي تؤدي للاحتكار بالضرورة لأن الحكم سيكون بأهواء الأقوى والأكثر بالتصويت لتحقيق مصالحهم، فتظهر البطالة، فيضطر الناس للعمل لساعات أطول فقط للحصول على لقمة العيش، فيزداد ثراء البعض، فتستشري الكماليات في الأسواق على حساب الضروريات. وهكذا من العديد من التسلسلات بالتربيط والتي لابد للرجوع لها في الكتاب حتى تُفهم التنمية المستدامة والتي بينت آخر سبع آيات من سورة سبأ مبادئها وبتصوير فني بديع كما في الرابط:

https://youtu.be/cduJXTteQIU

وفي أحد المواضع يكرر الأستاذ الباحث ما يقوله معظم من يريدون أسلمة الديمقراطية بأن الخلل الحادث في المجتمعات المعاصرة التي تطبق الديمقراطية هو ليس بسبب الديمقراطية ، بل بسبب سوء التطبيق. جوابي هو: لنقل بأننا نجحنا في التطبيق ووصلنا لأعلى مراتب الشفافية والنزاهة كالدول الاسكندنافية، عندها سنحتاج من أربعة إلى سبعة أضعاف حجم الكرة الأرضية حتى تنظف الكرة الأرضية نفسها من التلويث الناجم من الديمقراطية (والاختلاف في الرقم هل هو خمسة أو ستة أضعاف مثلاً هو بناء على كثافة الاستهلاك والتلويث لكل دولة). فالسويد مثلاً تستهلك ما يُنتج في الصين والهند فيكون التلويث هنالك لأن نظم العقل البشري القاصر أدت لهذا الوضع الطبقي حتى بين الدول. ولن أفصل هذه المسألة، فهي في الكتاب بحمد الله.

ومن المسائل التي لم تعرض برغم أهميتها هي كيفية ظهور المستوطنات مع مقصوصة الحقوق. هل ستكون مزدحمة أم بكثافات أقل؟ وما مسافات التباعد بينهم؟ لذا كان العنوان الفرعي لفصل ابن السبيل: انتشار أم ازدحام ؟ فهو فصل يوضح الإعجاز التشريعي في الاستيطان. فمنطقياً، فإن الوضع الأمثل للبشر للعيش باستدامة هو أن كل مستوطنة تنتج ما تستهلكه ودون تلويث وتتلافى الاستيراد، ذلك أن الاستيراد يعني النقل للمنتجات ما سيؤدي للتلويث الذي إن تراكم سيؤدي للتغير المناخي كما هو حادث. لكن هذا مطلب محال. أي استحالة إيجاد مستوطنات لا تلوث ولا تستورد. فما الحل؟ وفي الوقت ذاته، فإن البشرية بحاجة لظهور مستوطنات كالمدن لازدهار المعرفة والتقنية والفنون و و … وبحاجة أيضا لمستوطنات بكثافات أقل حيث مواضع الإنتاج الزراعي والحيواني و و … وغالبا ما تكون المستوطنات داعمة لكليهما. فما هو الوضع الأمثل للبشرية بين الازدحام والانتشار على الأرض؟ الاجابة تفوق عقول البشر. والوضع الحالي هو نتيجة للقرارات التي تُركت للسلطات وللمخططين ولقوى العرض والطلب في ظل أنظمة المجتمعات الحداثية، فكان التلوث والتغير المناخي. أما الوضع الأمثل بين الازدحام والانتشار فهو ما أتقنت الشريعة إنتاجه والتي لم تظهر لأن الشريعة لم تطبق. فالشريعة تدفع الناس للترحال من جهة، وتشدهم لمواطن الخيرات من جهة أخرى من خلال التفاعل بين أهل الحضر والوبر ومسائل أخرى موضحة في الرابط: https://youtu.be/aGnZSjvntBU

وفي حلقة أخرى من قص الحق توضيح لمعنى مراغماً في قوله تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَة). ثم بتوضيح السعة وعلاقتها بالهجرة وربطها بزكاة الأنعام بأنها أعيان وبالوقص، وبالربط أيضا بزكاة المعادن، نرى كيف أن الشريعة تدفع الناس للانتقال لمواطن الخيرات ليظهر الاتزان بين الخيرات والكثافات السكانية فتكون التنمية أكثر استدامة. وهذا رابط الحلقة للتوضيح: https://youtu.be/6D1so0N_fqQ

إلا أن العرض مر سريعاً على فصل ابن السبيل. فعند الحديث عن جمع أموال الزكاة وتوزيعها في الموقع (بعد الساعة الأولى و ١٢ دقيقة) لم يوضح الأستاذ الباحث، الحكمة الأهم من ذلك، وهي إغناء أفراد الأماكن التي خرجت منها الزكاة، ثم الذين يلونهم، أي الأقرب فالأقرب، وهكذا تكبر الرقعة المكتفية فتقل مشاكلها مثل الجهل والأمراض والجرائم، وتقل الحاجة لنفقات الأمن، وهكذا، وبالتدريج حتى يلتئم جرح جميع الأمة بزيادة مساحة ما تم التئامه وليس كالديمقراطيات والتي تضع المعايير بالعقل البشري القاصر لتوزيع المعونات بجمع الضرائب ما يؤدي للبيروقراطيات وتبديد الأموال والرشاوي كما هو واضح في الرابط: https://youtu.be/gsGMQH8myos

لم أفهم كيف مرّ من الأستاذ الباحث سريعاً على فصل الشركة. فهو فصل إن لم يُشرح، سيستحيل فهم فعالية مقصوصة الحقوق لحياة سعيدة رغدة دونما تلويث. والسبب هو أن النمط الإنتاجي (في الصناعة أو الزراعة أو الرعي أو التجارة) مع تطبيق الشريعة سيكون نمطاً مختلفاً تماماً عن الإنتاج بالنظم الحقوقية البشرية. فمع الشريعة ستتفتت العملية الإنتاجية إلى شراكات يعمل بها من يملكون، وبالتالي سيستحيل مثلاً استحداث مصنع يلوث لأن الملاك هم من سيتلوثون أولاً. ناهيكم عن أن العاملين، ولأنهم هم الملاك، سيكونون أكثر مبادرة وإبداعاً وإخلاصاً وسعادة في الإنتاج دونما بيروقراطيات. وهذا ما تتقن الرأسمالية تدميره، ذلك أن معظم العاملين أُجراء، ولهذا كوارث نفسية وإدارية و و...وبالطبع فإن فصل الشركة لن يفهم إلا بتوضيحات جذرية لكل من شركة الأبدان والمضاربة والوجوه والعنان والمفاوضة وكيفية عملها في ظروفنا الحالية.

مسألة أخرى، هي أن البشرية حارت بين الكفاءة في الإنتاج والعدالة في التوزيع بين الرأسمالية والاشتراكية، بينما الشريعة أبدعت بجمعهما. فمذهب فقهي يدفع للعدالة ثم تلحقها الكفاءة، ومذهب آخر يقوم بالعكس. ومسائل أخرى مثل الدفع للتنمية المستدامة ولن يتسع المقام لذكرها هنا. فلابد من قراءة الفصل أو مشاهدة الحلقات. ولعلي أعطي مثالاً سريعاً هنا عن شركة الوجوه دونما تفصيل من أحد اللقاءات: https://youtu.be/0JG3nsT_GD8

بذور الفساد

والآن سأبين كأمثلة بعض المسائل التي ذكرها الأستاذ الباحث دون تفصيل ما يجعل المشاهد في حيرة عن كيفية الحل مع تطبيق الشريعة في أيامنا هذه. فإن ركز على مسألة واحدة من جميع جوانبها من بدء الإشكالية للانتهاء بالحل مع تطبيق الشريعة، لكان أكثر إقناعاً للمتابعين من ذكر عدة قضايا مبتورة دون توضيح للحل. فمثلاً، تحدث الباحث عن الإحياء بطريقة تجعل المشاهدين في حيرة عما سيحدث أن تشاح الناس على الأراضي لأن الأراضي الآن ذات قيمة مرتفعة، وبالتالي سيتسابقون على الإحياء وسيظهر عمراناً من غير طرق، ومن غير خدمات، وستمتلئ المحاكم بالقضايا التي يدعي كل فيها أنه هو السابق بالإحياء. لكن إن استمر عرض الكتاب في الحديث عن الإحياء وبيّن حيازة الضرر كأداة تنظيم، ومبدأ الأسبقية، وإن ربط الحقوق المصاحبة للإحياء (مثل حق الاستطراق، وحق مسيل الماء) بقضايا أخرى مثل نظرية مالثوس وفسادها، و و ... لكان مثالاً يضع في أذهان المشاهدين أن الشريعة صالحة لأيامنا هذه برغم تقلص مهام السلطات. عندها سيقتنع المتابع من مثال الإحياء هذا، أن المجتمع تمكن من حل إشكالية السكن دونما سلطات وبالتالي دون بيروقراطيات ولا محسوبيات ولا ظهور أفراد يمتلكون ولا ينتجون و و ... والعشرات من الآفات. وهذا ما تفعله الشريعة مع جميع متطلبات الحياة حقوقياً. مثل حق السكنى في هذه الحالة. فهي ذاتية الحل بقص الحق، وكان بالإمكان أن تكون بذرة فساد، بأن قامت السلطات بفرض الضرائب لبناء المساكن.

هناك عبارة رددتها باستمرار في الكتاب بعد شرحها وهي « بذرة الفساد ». فعندما تقوم السلطات بعمل نظن أنه مهم مثل بناء المساكن أو جمع البصمات، ثم نعزله عن باقي محيطه، سنتأكد أنه عمل مطلوب محمود، لاستتباب الأمن مثلاً كما في حالة البصمات، فكيف إذا يرفضه قص الحق؟ إن ما يقوله قص الحق هو أنه بذرة فساد. كيف؟ سأوضح سريعاً بمثالين فقط:

الأول هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسك العملة، وهو الذي سافر إلى الشام وتاجر وتعامل بالدينار والدرهم، ومع ذلك لم يوص صلوات ربي وسلامه عليه بسكها، وكان بإمكانه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، وبالتالي فهي كلمات يقولها كتوصية منه للأمة كما أوصى بالكثير من المسائل. فهل نسي صلى الله عليه وسلم أن يوصي بمثل هذه المسألة المحورية لاقتصاد الأمة؟ بالطبع لا. وهل هو خير أخفاه عنا؟ بالطبع لا.

لقد نقد الباحث بأن جميل أكبر كان متشدداً بالتمسك بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعله. مشيراً إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعله لأنه كان منشغلاً بالفتوحات وتأسيس الدولة عقائدياً، لم يأمر بسك النقود أو يوصي بها. ثم يسأل: ما الدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لديه الوقت ليسك العملة؟

والجواب هو الآتي وباختصار: برغم ما ذكره الفقهاء حول مسألة ما قام داعيه ولم يقم به الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنني لن أعتمد عليها لأن البعض قد يقول «أن ما قام داعيه» صعب الإثبات، ناهيكم عمن ينكرون السنة كالقرآنيين. لكنني سأعتمد على الآتي: إن الإشكالية هي ليست في السؤال: هل يجب أن تكون العملة مادة قيمتها الذاتية فيها كالدينار والدرهم وأنها ليست وعداً بالسداد كالعملات الورقية أم لا. ولكن الإشكالية هي في السيطرة. من هو الذي سيسطر على هذه العملة بسكها مع منع الآخرين من السك؟ فرغم أن الدينار مادة قيمته محفوظة فيه، وفي هذا خير كبير لصحة الاقتصاد، إلا أن سيطرة الحكومات عليه ستفقد السوق شفافيته، وستجعل الحكومات هي من يسير الاقتصاد بخلط الذهب مثلاً، أو بخزن جزء كبير منه فيقل المتداول منه فيرتفع سعره، وهكذا من آفات. وهذا الوضع هو بذرة من بذور الفساد لأن هذه الصلاحية التي أعطيت للدولة (وبرغم كل محاسن الذهب مقارنة بالعملات التي تعِدُ بالسداد، كالدولار مثلاً) ستوجد تركيبة سلطوية اقتصادية تؤدي للطبقية وللاحتكار وللتضخم وللانكماش وللسندات وللأسهم التي تذهب للربح لمن لا ينتجون، و و ... والعشرات من المسائل التي شرحت في فصل الفصل والوصل. وبالطبع، فإن هذا الفصل لن يفهم إلا بقراءة ما سبقه من فصول بسبب الحاجة لتربيط ما رُبط. لهذا فإن سك النقود هو «بذرة فساد». والديمقراطية ما هي إلا تراكم لبذور الفساد. ولكن لماذا تقل احتمالات التحايل والغشش في سك العملات الذهبية مثلاً إن لم تقم بها الحكومات؟ سؤال مبرر والإجابة في الكتاب.

توضيح ثانٍ: كما بينت في أن سبب رفض الناس لقص الحق هو عدم رؤيتهم للحلول إن طبقت الشريعة، لهذا، فإن من يريد زيادة صلاحيات الدولة لتقوم بالسيطرة على النقد، عليه إثبات أن هذا هو الأصلح للاقتصاد، وليس القبول والاتكال على وضعنا الحالي البائس الذي لا يحكم بالشريعة. لكن إن أثبتنا أن الاقتصاد سيكون أكثر ازدهاراً بتطبيق الشريعة ودونما ظلم وتحايل، وباقتصاد هو الأقل اعتماداً على السيولة النقدية، ودونما سحب للكرة الأرضية للتلوث بعدم سك السلطات للعملات كما هو موضح في الكتاب، عندها فما الداعي لإقحام السلطات في سك النقود. قال تعالى: (لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ).

توضيح ثالث: في الحديث عن أسلمة الظلم، ظن الباحث أن كتاب قص الحق يصر على استخدام الذهب والفضة في التعاملات. فبرغم وضع السيناريوهات المختلفة حول إمكانية الاعتماد على الذهب والفضة كعملات في أيامنا هذه، إلا أن الكتاب وضح مراراً بأن الشريعة لا تمانع من ظهور عملات من غير الذهب والفضة لطالما أنها حققت شروط محددة منها أنها تكون خارج سيطرة الحكومات. فالبتكوين مثلاً الآن حقق شرط كون العملة خارج يد السلطات، لكنه لم يحقق شروطاً أخرى كما هو موضح في الفيديوهات وليس الكتاب، ذلك أنه ظهر بعد الانتهاء من كتابة قص الحق. أي أن القول بأن كتاب قص الحق يصر على استخدام الذهب والفضة، بالطبع غير صحيح كما هو موضح في فصل «الوصل والوصل» لأسباب كثيرة يصعب توضيحها هنا. فهي في الكتاب.

والمثال الثاني عن «بذرة الفساد» هو البصمات: فقد أثار الباحث موضوع البصمات، وعرضها بطريقة سيُفهم منها أن مؤلف قص الحق سلفي يرفض كل إبداع. فما الإشكالية في أن نتقبل البصمات ونحفظها للقبض على اللصوص والمجرمين كما ذكر الباحث؟ كما أن عدم جمعه أو توظيفه صلوات ربي وسلام عليه للعرافين المهرة الذين يحفظون آثار أقدام الناس للتجسس على المنافقين مثلاً، لا يعني عدم جمع البصمات كما قال الباحث. ولقد تعجب الباحث فعلاً من رفض قص الحق لقيام الدولة بجمع وحفظ البصمات. لهذا وصف الحال بأنه «مثال عجيب».

لم ينتبه الباحث على أن جمع البصمات ما هو إلا بذرة من بذور الفساد من عدة أوجه: الأول هو لأن مجتمعاتنا المعاصرة لم تطبق الشريعة فظهرت فيها الطبقية مع تراخ في تطبيق العقوبات، ما دفع المحتاجين للقيام بالسرقات. ومع كثرة السرقات ظهرت الحاجة الملحة لتعقب المجرمين فكان لابد من البصمات. لكن مع تطبيق مقصوصة الحقوق، وكما هو موضح في الكتاب، ومع تقارب الناس في الدخل بسبب فتح أبواب التمكين، ومع توافر أموال الزكاة، فلن يكون لحفظ البصمات حاجة. لهذا جذتها الشريعة بعدم فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لما هو مشابه للبصمات. فهو صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين الذين هم أشد فتكاً بالأمة من اللصوص، ومع ذلك لم يفعل شيئا تجاههم حتى لا تظهر بذرة الفساد. فمجرد القبول بجمع البصمات يعني جهازاً إدارياً للقيام بذلك، ويعني مكاتب وأجهزة وضرائب لسد نفقات هذا الجهاز و و ... لينتهي الحال بطبقة لديها صلاحيات متنفذة كالمباحث والاستخبارات. لكن ما تفعله الشريعة هو جذ المسألة من جذورها بالتحرز من عدم ظهور هذه البذور، لأن في ظهورها وكثرتها إما فساد وتلويث كما هو حاصل مع الديمقراطيات، وإما استبداد كما هو حال الدول الديكتاتورية. وعندها وبرغم كل هذه البصمات، سيفلت كبار اللصوص، وسيسجن من سرق قطعة خبز لطفله.

والوجه الثاني هو أن اللصوص جميعهم يعون مسألة البصمات، وبالتالي سيتلافون ترك آثارهم. وعندها ستحتاج المجتمعات لحفظ تقاسيم الوجه كما هو حاصل، والتي إن غطّيتْ سنحتاج لربما لحفظ روائح أجساد الناس والتي إن تمكن المجرمون من التحايل عليها سنحتاج لحفظ البصمات الجينية لجميع الناس، وهكذا من دورات تطاردية بين السلطات والمجرمين ما يؤدي للمزيد من الاستنزاف للأموال بفرض المزيد من الضرائب و و ... ليتحول المجتمع إلى مجتمع بوليسي غير آمن بامتياز. وللشريعة طريق آخر لعلاج المسألة كما هو موضح في الكتاب.

والوجه الثالث هو ما ذكرته سابقاً من أن على من يريد إضافة جمع وحفظ البصمات لمهام السلطات، برغم أنها مالياً مكلفة، أن يثبت أن المجتمعات ستكون أفضل حالاً من مجتمعات تطبق الشريعة. وهنا تظهر الحاجة للتربيط.

والآن لأعرض لبذور أخرى للفساد ذكرها عرض الكتاب دون تفصيل، فتُرك المتابع محتاراً عن كيفية تطبيق الشريعة، وبالتالي لن يقتنع بصلاحية الشريعة لأيامنا هذه لأنه لا يمكن له أن يرى التربيط المطلوب. فمن الأمثلة التي ذُكرت ولم تفصل: رفضُ كتاب قص الحق لجمع الأموال لتجهيز الجند وآلات القتال وأن كتاب قص الحق تركها للناس. عندها سيحتار من يرى الطائرات الأمريكية التي تقصف المسلمين عن كيفية ظهور الأسلحة المتطورة مع تطبيق الشريعة. فإن لم يكن التربيط واضحاً مع الشركات التي تصنع مع ثراء الناس الأسلحة، سيحتار المتابع.

ومن الأمثلة التعلي في البناء. فعندما يرى الناس كيف يخالف مُتعدٍ الأنظمة بسبب منصبه أو كثرة ماله وتمكنه من رشوة المسؤولين، سيخافون من عدم تحديد ارتفاعات المباني. لكنهم إن ربّطوا اللبنات وعلموا أن التعلي حق للمالك لا يوقفه إلا الضرر المترتب من التعلي، وأن من يُقِر هذا التعلي هم سكان الموقع المتضررون والذين لا يمكن رشوتهم، وأن هؤلاء المتنفذين لن يظهروا مع تطبيق الشريعة، ومسائل أخرى كثيرة مترابطة، عندها سيؤمنون أن منح (بحرف الحاء) حق التعلي من قبل السلطات لهي بذرة فساد.

والآن سأمر سريعاً على بذور أخرى للفساد قام الأستاذ الباحث بسردها بطريقة تركت المشاهدين في حيرة عن الشريعة كيف يمكن أن تعمل في أيامنا هذه ودون توضيح، فهي مبينة في الكتاب بحمد الله مثل: لماذا لم تسن الشريعة نظاماً لصكوك ملكيات الأراضي؟ لماذا لا إنفاق من الدولة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لماذا لا يحق للحكومة الأخذ من أموال الناس لتمويل مشروع خيري؟ لماذا منعت الشريعة نزع الملكية وحتى في أكثر الأماكن حاجة مثل توسعة المسجد الحرام؟ لماذا لم يسعّر الرسول صلى الله عليه وسلم السلع؟ لماذا لم يأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم المكوس من الأثرياء مثل الزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في وقت كانت فيه الأمة أحوج ما تكون للمال؟ جميع ما سبق، هي من بذور الفساد. يا لها من شريعة معجزة.

تصحيحات

ذكر من الأستاذ الباحث أن جميل أكبر كان «أحد المشاركين في التقويم الأولي للبيوت التي ستنزع ملكيتها من جبل عمر حول المسجد الحرام». والصحيح هو أنني كنت أحد المحكمين للمشروع الابتدائي الأول الذي قدم لمشروع جبل عمر كمشروع استثماري والذي ألغي تماما. كما أنني لم أكن من المحكمين لمشروع التوسعة كما ذكر، بل كنت رئيساً لفريق التحرير فقط للتوسعة الثالثة.

لقد أثار العرض مسألة نقد جميل أكبر للمذهب الحنفي. وهنا لابد من التوضيح وهو أن المذاهب الأربعة بالطبع تختلف في ما ذهبت إليه تجاه نفس المسألة. لكن الذي لاحظته عموماً، هو أن الاختلاف يأخذ ثلاث احتمالات: إما أن تكون جميع المذاهب على اتفاق إلا في تفاصيل دقيقة جداً، أو أن ثلاثة مذاهب في جهة ويخالفها المذهب الرابع، في هذين الاحتمالين، فإن رأي الجمهور بالطبع هو ما اعتمده كتاب قص الحق. أما إن كان الاختلاف إثنين لإثنين، أي أن مذهبين توافقا معاً واختلفا مع المذهبين الآخرين والذين توافقا أيضا، عندها ننظر لكبار فقهاء المذهب مثل ابن قدامة في المذهب الحنبلي، أو النووي في الشافعي، والذي سنلحظ أن منهم من يخالف مذهبه ليوافق المذهبين الآخرين، عندها فهذا القول هو الأمثل للتمكين كما هو موضح في معظم الأحوال في كتاب قص الحق، إلا مسألة واحدة، وهي عدم قسمة سواد العراق بين الغانمين والتي فصلت في فصلي الأراضي والديوان. فكتاب قص الحق يأخذ بما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه مع فقهاء آخرين.

لكن في الوقت ذاته، ولأن الأئمة متوافقون في الغالب، إلا أن الملاحظ هو أن كل مذهب قد سبق المذاهب الأخرى في مسائل التمكين من جهة. فالمالكية كانوا السباقين في مسائل الضرر والضرار، والشافعية كانوا السباقين في مسائل حيازة الخيرات كالمعادن، والحنابلة كانوا السباقين في مسائل الشركة، أما الأحناف، فهم الأسبق في مسائل الحكم وهي من أهم المسائل. ولأن فصل الحكم لم يكتب بعد، ظهر النقد للمذهب الحنفي. وبالطبع، كباحث، يجب ألا أحابي في مسائل الحقوق، فبرغم أنني حنفي المذهب لأنني بخاري الأصل، فإني أقف على مسافة واحدة من جميع المذاهب لتقصي الحق. «وكلهم على الحق». والسبب في القول أنهم كلهم على الحق، هو أن الاختلافات بينهم هي بالسنتيمترات، وليس بآلاف الكيلومترات كما هو الفرق بينهم وبين النظم الحقوقية التي أوجدها العقل البشري القاصر. لهذا عندما أُسأل، أي المذاهب نطبق إن أردنا الخير للأمة؟ جوابي هو: إن تطبيق أي مذهب من المذاهب الأربعة سيسحب الأمة للعزة. فالفروق بينهم تكاد لا تذكر مقارنة بالنظم الحقوقية الأخرى. إلا أنه من الواضح كما هو مفصل في فصل قصور العقل، هو أن المذهب الحنفي الذي أخذ بالاستحسان، قبل بالرأي أكثر من باقي المذاهب، فكان الأقرب للقبول بنقل بعض الحقوق للسلطات، وبهذا ستزيد مساحة حقوق الحاكم مثل منع إحياء الأرض إن كان قريباً من العامر عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وبرغم اختلاف هذا القول عن الجمهور، إلا أنه بعيد جداً عن النظم المعاصرة التي تفرض التخطيط على الناس ما يغير منظومة الحقوق بالكامل إن كان التخطيط من الدولة، وليس بتراكم القرارات من الفاعلين في الموقع، هذا بالطبع إضافة لتفاصيل أخرى كثيرة موضحة في فصل الأراضي وكتاب عمارة الأرض في الإسلام.

لقد كرر الأستاذ الباحث بأن المؤلف يرفض التخطيط، إلا أنه لم ينتبه للفارق بين رفض التخطيط المعاصر الذي عادة ما تقوم به الحكومات، وبين استحباب التخطيط إن كان تحت مظلة الناس وهو ما يوضحه كتاب قص الحق. ولأنه لم يرَ كيف يمكن للتخطيط أن يعمل تحت مظلة الناس، لم ينتبه للمسألة. والله أعلم.

مسألة منتشرة بين الكثير من المهتمين بقص الحق هي أن الكتاب غير مكتمل. وبالطبع إن لم يكن مكتملاً عندما نشرته. وللتوضيح أقول: إن ما في هذه الفصول المنشورة كافٍ لتوضيح مقصوصة الحقوق وكيف تعمل. أما الفصول التي لم تكتب، فقد بينتُ بعض أفكارها في ثنايا الكتاب. لكن لم أجمعها في مكان واحد بتفصيل مثل فصل الموافقات المخصص لموضوع الضرر والتراخيص والذي مررنا عليه في الكتاب في عدة مواضع. والفصل الوحيد الذي لم يأخذ حقه من التوضيح هو فصل المعرفة، وقد نشرت أهم محتوياته المتعلقة بقص الحق في كتاب بعنوان: «براءة الإسلام من براءة الاختراع». أما ما هو متصل بنظريات المعرفة أو الأبستمولوجيا، فهو ليس بذات الأهمية لقص الحق إلا فلسفيا، وهو من محتويات فصل المعرفة. وبالنسبة لفصل الحكم، والذي يظن الكثيرون أنه هو الأهم، فبالإمكان استنتاج أفكاره من الكتاب الحالي. وما سيقدمه فصل الحكم بإذن الله هو المزيد من الإثباتات لتثبيت صلاحيات السلطات منعاً للتغول، بالإضافة لتوضيحات حول كيفية وصول الخليفة لسدة الحكم. أما فصل الأماكن، فهو مخصص لتربيط ما رُبط لتوضيح كيفية تفاعل الخطط المكانية والإنتاجية والولائية، وهذه بإمكان أي باحث القيام بها مستقبلاً إن فهم قص الحق. وأمنيتي أن أقوم بها، لأنها ستكون بحثاً ممتعاً في التفكير والتربيط. لكن ما كُتب في قص الحق كافٍ بحمد الله.

وأخيراً

لقد أثار من الأستاذ الباحث سؤالاً هو: إن كنت يا جميل في نفس موقع القرضاوي رحمه الله مثلاً، فماذا كنت ستفعل؟ وإجابتي هي: الحق واحد ويجب ألا يتغير أو يتلون. فما أضاع الأمة هو إما الجهل بالتنمية كما هو حال الذين نُقدوا في الكتاب، أو مجاراة للغير على حساب الحق كما فعل علماء السلاطين. والنتيجة هي أن الحكومات في الدول الاسلامية اعتمدت على أقوال هؤلاء على أنها هي الشريعة، فتمادت وتوغلت في سحب الحقوق لنفسها ما دمر الشعوب المغيبة عن حقوقها، فوصلنا لما نحن فيه من ذل.

كما أن الأستاذ الباحث بيّن ناقداً أن قص الحق لم يتحدث عن الآخرة وأن الدنيا دار فانية، وأن الأصل هو العمل لما بعد هذه الحياة، وبالتالي فليس المطلوب إذاً الإعمار بأفضل ما يمكن وأجمل ما يمكن. وهنا لابد من التوضيح: لقد ركز كتاب قص الحق على التفريق بين الحركيات والقيم. وأن القيم السامية ستظهر مع تطبيق الحركيات، أي مع تطبيق مقصوصة الحقوق، أما التركيز على القيم كما يفعل بعض الدعاة، سيصلح البعض على حساب انفلات آخرين، وستستمر السلطات في الاستبداد والديمقراطية في التلويث والفساد، وهكذا سنستمر في دوامة مع الفساد لأن مقصوصة الحقوق لم تطبق. فمثلاً، مع تطبيق مقصوصة الحقوق ولأن نسبة الملاك مرتفعة، سيكون معظم من يملكون ويعملون لأنفسهم أو شراكة مع آخرين، متعلقين بالله عز وجل طلباً للرزق وبالتالي فهم متوكلون. أما مع انخفاض نسبة الملاك، كما في الدول الريعية النفطية مثلاً، ولأن المعظم يعمل لدى الدولة، فلماذا الدعاء والرجاء إذاً إن كان المرتب (المعاش) سيودع في الحساب المصرفي آخر الشهر. وهذا مثال واحد. وهناك العشرات من الأمثلة التي يوضحها الكتاب والتي تسحب للقيم الأسمى للمجتمع.

وهنا نأتي لمسألة مهمة جداً، ألا وهي الدكتاتورية الفكرية. فما يقوله كتاب قص الحق، هو أن تطبيق مقصوصة الحقوق، سيوجد مجتمعاً قوياً عزيزاً مزدهراً في كل المجالات بتفاعل الأفراد المتمكنين مع الخيرات، والذي لا نعرف مواصفاته (غير الحقوقية بالطبع) عمرانياً ولا تصنيعياً، ولا ولا ... بل سيظهر هذا المجتمع بتفاعل ملايين البشر مع الخيرات. أما محاولة تعريف الحضارات بوضع مواصفات لها ثم معايير للوصول للمواصفات، بأن تكون المدن مثلاً بهذا التعداد السكاني، أو يكون الاقتصاد بهذا النمو السنوي، فهو ما يحاول كتاب قص الحق تبيان فساده. ذلك أن محاولة تحقيق هذه المواصفات في أرض الواقع سيؤدي لظهور القوانين فتتغير مقصوصة الحقوق، وهذا ما يقع فيه المخططون عموماً. وهذا حسب مقصوصة الحقوق، دكتاتورية فكرية. فما قاله من الأستاذ الباحث في آخر العرض، أنه ليس المطلوب منا الإعمار بأفضل ما يمكن، أو أجمل ما يمكن، وعلاقة ذلك بالدار الآخرة، فهذه عبارة قد تسحب إن أردنا تطبيقها لعكس ما تؤدي إليه مقصوصة الحقوق. وكمثال، فقد ذكر الزهد كقيمة. وفي الرابط مثال لكيف جعل الزهد حركية: https://youtu.be/SQTLVBlBBYY

دعواتكم

جميل أكبر

إسطنبول، الجمعة, 17 محرم 1445

الموافق 4 أغسطس 2023